حوض آرغين”. ثروة موريتانيا الآسرة عند ملتقى الساحل والصحراء
في مشهد طبيعيٍّ نادر، تلتقي أمواج المحيط الهادرة برمال الصحراء المشتعلة دون أي وساطات، فإذا أحسنت الظن قلت إن هنالك حلفا بين الماء والصحراء لا تنفصم عُراه، وإذا كانت الأخرى قلت إن أحدهما يلتهم الآخر، فلا تدري ساعتها أهي الرمال تتلاشى في البحر أم هي المياه تغيض في الرمال.
فعلى مساحة 12 ألف كيلومتر مربع في البر و6 آلاف كيلومتر مربع في البحر سوف تبدو لك محمية طبيعية نادرة الوجود على مستوى العالم، بينما لا يعرف أهلها الموريتانيون عنها الكثير. لأجل ذلك أنتجت لها الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة من سلسلة “دهاليز”، ألقت فيها الضوء على أهم ما يميز هذه المحمية الخلّابة، وعرضت الحلقة بعنوان “حوض آرغين”.
سبخة آرغين العظيمة.. أكبر محطة توقف للطيور المهاجرة
هناك عدة خصوصيات مناخية وبيئية كثيرة جعلت هذه المنطقة مكانا نادرا على مستوى العالم، حيث توجد بها 15 جزيرة تُعتبر مهابط ومنتجعات لملايين الطيور المهاجرة من أنحاء العالم، وقد صُنّفت ضمن لائحة التراث الطبيعي العالمي لمنظمة اليونسكو.
ويوضح الباحث الشيخ بن أحمدو أن هذه السبخة العظيمة تقع على بعد 170 كيلومترا شمال العاصمة نواكشوط، ويحدها من الشرق سهل تازيازت المنخفض، وهي محطة توقف مهمة للطيور المهاجرة منذ القدم، حيث المناخ الملائم والغذاء الوفير من كميات هائلة من الأسماك الصغيرة والكائنات الدقيقة.
وتأتي الطيور الشتوية من مختلف بقاع العالم، فتتكاثر في الحوض ثم تكمل رحلتها. ومن هذه الطيور مجموعات معششة وأخرى قاطنة، وتعتبر الطيور الشتوية الأكثر من ناحية الكم، فهنالك مليونان ونصف من طيور المستنقعات تأتي إلى المحمية لتقضي أكثر 6 أشهر سنويا قادمة من سيبيريا، وتقطع مسافة نحو 11 ألف كيلومتر حتى تصل إلى حوض آرغين.
ويقول عالم البيولوجيا لمهابه ولد يربه إنه نظرا لتوسط هذا الحوض واعتداله مناخيا، فإن أفئدة الطير من أطراف الكوكب تهوي إليه، بل إن 60% من أعداد طائر “بيكاسو موبيش” على مستوى العالم تعيش في هذه المحمية الوطنية في موريتانيا، وكذلك 70% من مجموع أعداد طائر “لابارغروس” تعيش في حوض آرغين ايضا.
قبائل الإيمراغن.. شعب توارث السواحل منذ آلاف السنين
تعيش قبائل “الإيمراغن” في هذا الحوض، في حضارة عمرها أكثر من 10 آلاف عام، تمتد على شطآن المحمية، وكل أنماط عيشهم مستمدة من هذه المحمية، وهي الوحيدة المرخص لها بالصيد في قوارب شراعية لا تستخدم المحركات، وتتعايش بشكل ودّي ومتناغم مع هذه الطبيعة.
ويتصف الإيمراغن بالصبر والذكاء والسخاء، وهم موجودون هنا منذ زمن بعيد، وعلى الرغم من التهميش الذي يواجهونه، ونقص الماء والغذاء، وصعوبة الاقتصاد، فإنهم لا يرضون بموطنهم بديلا، “فنحن نتبادل مع هذه المنطقة الوفاء بالوعد والمحافظة على العهد” كما يقول محمد ولد طهمان، أحد أفراد الإيمراغن.
ويصنع الإيمراغن شباكهم التقليدية “العاتق” لصيد الأسماك بأيديهم، وهي حرفة يتوارثونها منذ أزمان بعيدة، وهذه الشباك تحمل على الظهر إلى أن يصلوا بها إلى البحر، من أجل حماية البيئة والمحافظة على الطيور.
ويعتبر طائر مالك الحزين من أكبر الطيور الموجودة في حوض آرغين حجما، وهو يعيش ويتكاثر على جزر هذه الحظيرة الوطنية، ويعتبر من أكثر الطيور استهلاكا للطعام، وهو صيّاد ماهر يتشارك مع السكان المحليين الثروة السمكية في المنطقة، فهم لا يعتبرونه منافسا بل شريكا.
ولأفراد قبيلة الإيمراغن مهارات مميزة يختصون بها في الإبحار والصيد بمنطقتهم الجغرافية التي يعيشون عليها، فيصيدون سمك البوري الذي يأتي موسميا إلى هذه المحمية، ويضرب أحدهم سطح الماء بقطعة خشبية كبيرة لتنبيه الثدييات البحرية، وهي تساعدهم في جرّ أسراب البوري إلى المياه الضحلة باتجاه الشاطئ ليستفيد منها الطرفان.
تناغم المحيط والصحراء.. ثروة الأسماك والطيور والنباتات البحرية
يعتبر حوض آرغين من أكبر المساحات من حيث وجود الأعشاب البحرية على مساحة 1000 كيلومتر مربع، وتُكوّن قاعدة السلسلة الغذائية، وبهذا يمثل الحوض ظاهرة غذائية متكاملة، فالصحراء تجلب كثيرا من الغذاء باتجاه البحر، وبدورها تعمل مناقير الطيور الطويلة على إدخال الأكسجين إلى التربة لتمتصه جذور النباتات.
ويعطي وجود التيارات المائية المختلفة -مثل تيار الكناري- خصائص إضافية لحوض آرغين، مما يجعله غنيا بأنواع الغذاء المختلفة للبشر والطيور والأسماك والأعشاب المائية على حدٍّ سواء.
ويقول عالم البيولوجيا لمهابه ولد يربه إن حركة الطيور في المنطقة تتوقف على حركة المدّ والجزر، ففي فترات المد تتوجه الطيور إلى الجُزُر، ثم تعود إلى الشواطئ في فترات الجَزْر لالتقاط الطعام الذي خلفته المياه وراءها. أما طائر النحّام ذو السيقان الطويلة، فهو آخر الطيور التي تتأثر بفترتي المد والجزر، وهو طائر يأتي من مناطق البحر الأبيض المتوسط، وخصوصا المناطق الإسبانية، ويأتي إلى حوض آرغين للتكاثر.
نساء الإيمراغن.. مدبرات الحياة ورائدات السياحة
الحياة في حوض آرغين منعزلة تقريبا عن العالم الخارجي؛ فلا كهرباء أو هاتف أو إنترنت، ولا حتى بنية تحتية تجعل هذه المنطقة صالحة للحياة البشرية، فلا طُرق معبدة غير الدروب البدائية التي تجعل الوصول إلى هذه المنطقة صعبا. والغذاء منحصر في نوع واحد من الطعام ليلا ونهارا، وهو السمك فقط، مما يجعل شكل الحياة هنا معقدا للغاية، ولكنه لطيف في الوقت نفسه، كما يراها كثير من سكانها.
وتُحضِر النساء الأسماك من الصيادين على الشواطئ، وتقوم بتنظيفها وتجفيفها في أكواخ تسمى “التيكيت”، لاستخدامها في الفصول التي تشحّ فيها الأسماك في البحر. والمرأة هي العنصر الرئيسي في حياة قبيلة الإيمراغن، فهي التي تدبر المعيشة والتربية والاقتصاد في القبيلة.
تقول سكينة بنت حامد إعاسي، وهي مرشدة سياحية: فكرت عام 1999 في مشروع سياحي يخدم هذه الجزيرة، فجهزت الخيام وبنيت حائط صدّ من الأعشاب وسيقان النباتات الجافة، لمنع عصف الرمال بالخيام، وقد كانت تجربة رائدة وناجحة على مستوى قرى حوض آرغين، فاستفادت منها نساء القرى الأخرى وبدأن بتطبيقها، وكان هذه المشروع نافذتنا على العالم، فقد أمّنا الزوار والسائحون من البلدان المختلفة.
أساطيل الغزاة.. أطماع المستعمر الأوروبي منذ قرون
خضعت المحمية في الماضي لسيطرة البرتغاليين والإسبان والهولنديين من بعدهم، وكانت فرنسا آخر الغزاة الذين احتلوا البلد في مطلع القرن الماضي. وقد تنازع الأوروبيون على مدى ثلاثة قرون للحصول على مخزون الصمغ الوفير في هذا الحوض، وفي القرن الـ19 جاءت أساطيل أوروبا، ليس للحرب هذه المرة، ولكن لصيد السمك الوفير في حوض آرغين.
ويستذكر أهل الحوض في هذا السياق حادثة “الميدوز” التي يعود تاريخها إلى القرن الـ18، وهي سفينة فرنسية تقول الحكاية إن ربانها قد ضل طريقه في البحر، وبينما كان يظن أنه بعيد عن الشاطئ إذا بسفينته قد علقت في رمال حوض آرغين، واستخدم ركاب السفينة الطُوَفَ للوصول إلى الشاطئ، وصاروا يقتتلون للحصول على الأماكن المحدودة فيها، ونظرا لنفاد الطعام فقد أكل بعضهم بعضا.
إهمال الدولة.. تنوع بيولوجي ثري في مهب الريح
يقول المدون الموريتاني سيدي الطيب ولد المجتبى: ما زالت منطقة حوض آرغين بين مطرقة سفن الصيد الأوروبية التي تستنزف ثروتها السمكية، وسندان الحكومة المحلية التي لا تولي هذه المنطقة أي اهتمام سوى استخدامها ورقة ضغط على المنظمات الدولية، لاستدرار عطفها بالقروض والمساعدات، بحجة تطوير المحمية.
والحقيقة أنه لا يعرف القيمة الحقيقية للحوض سوى سكانه الأصليين من قبيلة إيمراغن، وهم لا يفكرون في ترك المنطقة رغم الصعوبات وقساوة العيش، فقد تربوا منذ الصغر على حب هذا الحوض، وهم يربون أبناءهم وأحفادهم على التمسك بهذه الأرض وعدم مغادرتها.
ويطالب سكان المحمية الدولة بتنمية المنطقة والنهوض بها بشكل شامل؛ من بنية تحتية ووسائل جذب سياحية ومنتجعات وفنادق وطرق حديثة، فهذا سيوفر دخلا مقبولا لأهل الحوض ويجعلهم يتشبثون به أكثر.
ويرى علماء هولنديون بأن مستقبل المحمية مرهون بالمحافظة على التنوع البيولوجي الهائل بها، وتعميق البحث العلمي ودعمه، فكل متر مربع من حوض آرغين يصلح لأن يكون أطروحة جامعية، وهي حالة بيئية نادرة الوجود تحتاج لمن يحافظ عليها.
** نقلا عن الجزيرة الوثائقية