آخر الأخبار

الكسكس.. الطبق الذي وحد تاريخ وجغرافيا المغرب الكبير

لا الحسابات السياسة ولا التجارة البينية ولا التهديدات الأمنية المشتركة ولا الأطماع الخارجية التي تحوم حول المنطقة منذ عقود؛ لا شيء من ذلك أدى إلى توحيد دول المغرب العربي وجمع كلمتها، رغم الاتفاق الموقّع على الورق بين قادة دولها الخمس منذ أكثر من ثلاثين عاما.

 

وحده طبق الكسكس حاز هذا الفضل وسمح لأول مرة لكل من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، بالتقدّم بملف مشترك إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، من أجل الحصول على اعتراف أممي بطبق الكسكس كتراث عالمي غير مادي. وحدها الظروف السياسية الصعبة التي تجتازها ليبيا يمكن أن تفسّر غياب ليبيا عن هذه الخطوة الوحدوية، فمطبخها ليس أقل معرفة بالكسكس من باقي المجتمعات المغاربية.

 

ومن الخصائص التاريخية الكثيرة التي ينطوي عليها هذا الطبق جمعه في أصوله بين العادات الغذائية الأمازيغية وبين تلك القادمة من الأندلس إثر موجة الهجرة الجماعية للمسلمين واليهود بعد سقوط الأندلس في يد المسيحيين.

 

“أفضل كسكس هو الذي تعدّه أمي”.. طبق الوحدة المغاربية

 

حتى العام 2018، كان المراقبون يترقبون فصول معركة طاحنة جديدة من المعارك الدونكيشوتية (دون كيشوت: شخصية خيالية في رواية إسبانية) بين المغرب والجزائر بشكل خاص، حيث كان موضوع الكسكس قد تحوّل إلى واجهة جديدة من واجهات الصراع السياسي بين البلدين، حين تراشقت الحكومتان في الدولتين بتصريحات تبادلا فيها الاتهام بمحاولة احتكار طبق الكسكس وادعاء ملكيته دون باقي دول المغرب العربي، وذلك بعدما بادرت الجزائر إلى طلب تسجيله باسمها.

 

وخلافا لمعركة فن “الراي” التي دارت رحاها بين المغرب والجزائر كنوع من الغناء الشبابي المنتشر في البلدين ويدعي كل منهما ملكيته، كان الانتشار الأوسع لطبق الكسكس سببا في منع حدوث هذه المواجهة الثنائية، إذ سرعان ما انضمت تونس وموريتانيا إلى النقاش الذي أثير حوله، وقد اتفقت هذه الدول الأربع على تحضير ملف مشترك بينها وتقديمه لمنظمة اليونسكو، وهو ما انطلق مستهل العام 2019، وتوّج بعد نحو عامين بصدور قرار المنظمة الأممية بتصنيف الطبق كتراث إنساني غير مادي.

 

فقد أعلنت منظمة اليونسكو منتصف شهر ديسمبر/كانون أول 2020، عن إدراجها “المهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك الكسكس” في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، معتبرة أن هذا الإدراج المشترك يبيّن “إلى أي حدّ يمكن للتراث الثقافي غير المادي أن يكون موضوعا يجمع الدول ويحضّها على التعاون[1].

 

وأبدت المنظمة التابعة للأمم المتحدة ميلا خاصا لربط هذا الطبق الشهير بالإرث الثقافي الأمازيغي، حيث وصفته في موقعها الرسمي بـ”الطبق الأمازيغي” الضارب في القدم، “لأنّ الكسكس كان معروفا منذ العصور الوسطى على أقل تقدير”.

 

وفي صيغة مهذبة للقفز فوق النقطة الخلافية لتحديد تاريخ نشوء هذا الطبق وبالتالي أصله الحضاري؛ خلصت اليونسكو إلى أن الخبراء الذين أعدوا ملف الترشيح من دول المغرب العربي الأربعة، قد اتفقوا على النتيجة نفسها: “أفضل كسكس هو الذي تعدّه أمي[2].

 

الكسكس أكثر من مجرّد طبق ووجبة غذاء، بل هو أوقات مميزة وذكريات وتقاليد ومهارات وحركات تتناقلها الأجيال. وقد وقفت المنظمة بناء على الوثائق التي تضمنها ملف الخبراء المغاربيين، إلى أن هناك مجموعة لا تتناهى من الفروق الدقيقة بين المناطق في كيفية تحضير طبق الكسكس، إذ تختلف المكونات باختلاف النظم البيئية والجغرافيا من سهول وجبال وصحراء، مما يجعل هذا الطبق مرآة حضارية تعكس خصائص شعوب المنطقة.

 

تتكون المادة الأساسية للكسكس من سميد القمح الذي يتم تدويره على شكل حبيبات صغيرة بقطر مللي متر واحد

 سميد القمح.. طبق قادم من العصر الروماني

لا تتوفّر أي من المراجع العلمية والتاريخية على تحديد دقيق لفترة ظهور الكسكس لأول مرة، لكن عملية طهي حبات السميد المستخرجة من الحبوب تشكل مرحلة فارقة في تاريخ البشرية، فقد طوّر الإنسان من خلالها مستوى عيشه وطريقة استهلاكه للطعام.

 

ويكاد كل بحث في جذور طبق الكسكس يرتبط بتاريخ زراعة الحبوب واستهلاكها من طرف الإنسان، حيث يمكن العودة بأصل طبق الكسكس إلى العهد الروماني أو ما قبله، لكن استخراج سميد القمح يعتبر خاصية لإنسان شمال إفريقيا، حتى أن البعض يرجع تسميته إلى الكلمة الرومانية “سميلية[3].

 

من الناحية المرتبطة بمكوناته يعتبر طبق الكسكس أكلة متوسطية بامتياز، لكن طريقة طهوه المعتمدة على البخار، تجعله يتميز بخاصية شبه خاصة بسكان شمال إفريقيا، وهذه الخاصية تعتبر بمثابة الحدود الفاصلة بين الكسكس المغاربي وغيره من الأطباق المشابهة له عبر العالم.

 

للكسكس طقوس وعادات وأهازيج ترددها النساء حين يجتمعن لتحضيره في المناسبات المختلفة

 

اسم الكسكس.. هدية الدولة الحفصية إلى العالم

 

أما كلمة “الكسكس” فيعود أول ظهور لها في الأغلب إلى مرحلة الدولة الحفصية، أي خلال الفترة التي تعرف بالعصور الوسطى، حيث بات هذا الطبق أكثر شيوعا في المجال المتوسطي الغربي، أي في كل من شمال إفريقيا وجنوب أوروبا.

 

وتقول بعض المصادر التاريخية إن طبق الكسكس في الحقبة الحفصية كان نخبويا لا يتناوله إلا علية القوم، في مقابل أطباق أخرى خاصة بالطبقات الشعبية، مثل “البازين” و”البسيسة” المعروفين في تونس وطرابلس، قبل أن يعمم طبق الكسكس ويصبح شائعا بين جميع الفئات.

 

وتقول المصادر التاريخية إن الكسكس بعد ظهوره في شمال إفريقيا انتقل إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط، حيث انتشر في جنوب فرنسا وفي إيطاليا علاوة على الأندلس، قبل أن ينتقل مع الحملات الاستعمارية لإسبانيا والبرتغال إلى أمريكا اللاتينية[4].

 

يرافق طبق الكسكس إدام الخضار واللحم والسمك أحيانا، مما يعطيه طعمه الشهي

عناصر الطبيعة الأربعة.. تفسيرات أسطورية

يتميّز تحضير هذا طبق الكسكس باستعمال أدوات وأواني لا تكاد تستعمل في تحضير أي طبق آخر، حيث ينتهي به الأمر في قصعة أو جفنة أو “تبصيل”، وهي عبارة عن إناء مصنوع من الفخار يمكنه من الحفاظ على الحرارة. وتختلف طريقة تناول الكسكس بين ملاعق وبين لقم تصنع باليد مباشرة، لتحوّل خليط السميد والخضر واللحم إلى كرة تلقى في الفم بتقنية خاصة.

 

ويعطي البعض لطبق الكسكس تفسيرات أسطورية، من قبيل ربطه ببعض ظواهر الطبيعة وقواها، حيث يختزل الطبق ما يرمز إلى مراحل الحياة كلها، من ولادة وحمل وزواج واحتفال ديني، ويكثف المعاني المرتبطة بكل من النار التي تسمح بطهيه ومنحه الحرارة التي يشتهر بها، والأرض الذي تلد أصناف القمح والحبوب والخضراوات التي تدخل في تحضيره، والماء الذي يتجسد أساسا في المرق الخاص الذي يسقى به السميد، ثم الهواء المتمثل في البخار الذي يطهى فوقه سميد الكسكس[5].

 

يعتبر الكسكس الطبق الرئيس لجميع مناسبات أهل المغرب العربي

رفيق المناسبات.. “كسكسي” الديار التونسية

 

تطلق على طبق الكسكس في تونس أسماء مثل “كسكسي” و”طعام” و”نعمة” إلى جانب اسم “سكسو” الأمازيغي. وتعتبر العائلة التونسية الإطار الذي يتعلم فيه طهو الكسكس، حيث تحرص الأمهات والجدات على تعليم بناتهن منذ سنة مبكرة، فتقدّم إليهن الأدوات الخاصة به في مناسبات مثل الأعياد وخلال شهر رمضان، ليتدربن على تحضير هذا الطبق العائلي، حتى أن الأواني الخاصة بتحضير الكسكس صارت ضمن الألعاب البلاستيكية التي تباع لتقدم كهدايا للأطفال[6].

 

يوصف طبق الكسكس في تونس بكونه “طبق هوياتي”، يحيل على نوع من الميثاق الاجتماعي الذي يساهم في اندماج الأفراد والجماعات. وكثيرا ما تقترن الاجتماعات العائلية بإعداد مأدبة تتمحور حول طبق “الكسكسي” في تجسيد لمقاومة عوامل الانحلال والتفكك الاجتماعيين.

 

ويقدم الكسكس في مناسبات عديدة، سواء منها الأفراح أو الأحزان، مثل الأعياد واحتفالات الزفاف أو الختان أو مأدبة ما بعد أداء فريضة الحج، أو لمجرد الاجتماع مع العائلة في نهاية الأسبوع. ووفقا للتقاليد المأتمية في بعض مناطق تونس، يتعين على عائلة المتوفي الامتناع عن الطبخ، لا سيما وجبة الكسكس، وذلك طيلة ثلاثة أيام بعد الوفاة، على أن يتكفّل الجيران بالأمر فيأتون بأطباق الكسكس لإطعام المعزين[7].

 

ويستعمل المطبخ التونسي أدوات مطبخية خاصة لتحضير وجبة الكسكس، من بينها “المقفول” و”الكسكاس”، وهما الآنيتان اللتان توضع إحداهما فوق الأخرى، ليطهى المرق في الآنية السفلى ويطهى الكسكس في الآنية العليا مستفيدا من البخار المتصاعد. ويطلق التونسيون على الشريط الذي يوضع بين الإناءين لمنع تسرب البخار، “اللطام” أو “القفيلة” أو “الحزامية” أو “السدادة”.

 

من أجل البركة، تقرأ النساء الفاتحة عل السميد قبل أن يبدأن بعملية تحضيره ليصبح جاهزا للطبخ

“عشاء الميت”.. رحلة حياة من المهد إلى اللحد

 

يحصي التونسيون ما يزيد عن مئة نوع من أطباق الكسكس موزعة بين أنحاء البلاد، وتتوزّع بين أصناف حلوة وأخرى مالحة، وبين ما يستعمل فيها اللحم بأنواعه كالضأن والدجاج والسمك، وبين ما يكتفى فيه ببعض الخضراوات التي تختلف باختلاف فصول السنة. ويرافق هذا الطبق رحلة الإنسان التونسي في جميع مراحل حياته، حيث يحضر عند الولادة وعند الختان وعند الزواج ثم عند الوفاة[8].

 

فعند الولادة تقام وليمة للكسكس بعد نحو أسبوع، يلتئم فيها المدعوون حول الأطباق، بينما يقدّم للمرأة النفساء صنف خاص من الكسكس يسمى بـ”قابس المعفّن”، حيث يتميز باستعمال بعض الأعشاب الجبلية مثل الإكليل والزعتر.

بينما يعتبر الكسكس الطبق الرئيس لحفلات الختان، كما يحضّر بعناية كبيرة لحفلات الزفاف، وتتولى هذه المهمة عائلة العريس، ويطلق عليه في هذه الحالة اسم “قصعة العروس”، حيث يقدّم بالفعل للعروس بعد خطبتها مزينا بالحلوى والبيض كرمز للخصوبة والإنجاب. كما يحضر الكسكس طيلة أيام الاحتفالات بالزفاف، والتي تنتهي بتحضير أسرة العروس “قصعة السبوع” التي تقدم في اليوم السابع والأخير من الاحتفالات[9].

 

أما عند الوفاة فيقدّم الكسكس في اليوم الثالث، ويطلق عليه اسم “عشاء الميّت”، وبالنظر إلى الطبيعة الحزينة للمناسبة، فإن طبق الكسكس يكون من النوع البسيط مع قدر قليل من الخضراوات والتوابل، ويتكرر تقديم طبق الكسكس فيما يعرف بمناسبة “الأربعين” التي تقام بعد مرور أربعين يوما على الوفاة، وبذلك يرافق طبق الكسكس الفرد والجماعة من الولادة إلى الوفاة.

 

انتقل طبق الكسكس من المغرب العربي حتى وصل أواسط آسيا شرقا وشمال أوروبا غربا

كسكس المغرب.. مرآة الطبيعة في أرجاء المملكة

 

يختلف الاسم الذي يطلق على الكسكس باختلاف المناطق والسياقات الثقافية والموروث التاريخي. ففي بعض المناطق يطلق عليه اسم “كسيكسو” التي تشير في الأصل إلى حبات السميد المستخرج من القمح، وفي أخرى يسمى “كوسكوس” وهي كلمة تشير إلى المادة التي تنتج عن عملية سحق القمح، بينما يشار إليه في بعض الأحيان بما يعبر عن علاقته بإناء “الكسكاس” الذي توضع فيه حبات السميد لتطهى فوق البخار.

 

في الملف المغربي المقدم لليونسكو في شهر مارس/آذار 2020، نجد إشارة إلى أربعة أسماء رئيسة تطلق على هذا الطبق، وهي “الكسكس” و”الطْعام” و”كسكسو” و”سكسو”.

 

وتنتشر في المغرب تشكيلة متنوعة من أطباق الكسكس، تختلف بحسب الخصائص الطبيعية والثقافية لكل جهة من جهات المملكة، ففي الأرياف يعبّر طبق الكسكس عن تعاقب الفصول وما يتوفّر في كل منها من حبوب وخضر. وفي كل من المدن والقرى يعتبر الكسكس طبقا أساسيا في الأفراح والأحزان، حيث يجري تحضيره كلما كان هناك تجمع استثنائي بغض النظر عن المناسبة[10].

 

ويعتبر الكسكس في المغرب رمزا للغنى والتنوع الزراعي الذي تتسم به البلاد، ويستخرج سميد الكسكس أساسا من حبوب أهمها القمح والشعير والذرة. وإلى جانب قائمة طويلة من الخضر واللحوم التي ترافق هذا الطبق، يتسم الكسكس بعدد من الطقوس والعادات التي ترافق تحضيره واستهلاكه، مما يجعل هذا الطبق يمثل إرثا ثقافيا مرتبطا بحقول معرفية عديدة[11].

 

يحضر طبق الكسكس في جميع البيوت المغربية بدون استثناء، ويعتبر تقديمه دليلا على حفاوة الاستقبال والكرم والالتفاف حول مائدة واحدة بما يعنيه من وحدة واجتماع، فمباشرة بعد صلاة الجمعة التي تعتبر بمثابة التجمع الديني الأكبر خلال الأسبوع، تلتئم الأسر المغربية حول طبق الكسكس دلالة على استمرار هذا الاجتماع، ويعتبر حضور هذا الطبق مؤشرا على الاحتفال والفرح بخيرات الطبيعة وبحلول جلّ المناسبات، سواء منها العائلية أو الزراعية أو الأعياد[12].

أدوات الكسكس.. تقاليد ضاربة في عمق التاريخ

 

يرتبط تحضير الكسكس في المغرب بعدد من الأدوات والأواني التقليدية، أهمها:

الرحى اليدوية: وهي عبارة عن آلة لسحق الحبوب كانت تصنع من الحجارة، وتقوم على مبدأ دوران القسم العلوي من الآلة ليسحق الحبات التي توضع بينه وبين القسم السفلي، وكانت هذه الآلة على الدوام اختصاصا نسائيا، إذ تتولى ربة البيت طحن القمح لاستخراج السميد اللازم لتحضير الكسكس.

 

المغرفة الخشبية: وهي أداة تشبه الملعقة لكنها أكبر حجما، وتستعمل لتحريك وتقليب حبات السميد أثناء تحضيرها لطبق الكسكس.

 

الغربال: وتطلق عليه أسماء مختلفة بحسب المناطق، من بينها “شطاطو” و”بوصيار”، ويستعمل أساسا لفرز حبات السميد بحسب حجمها.

 

الكسكاس: وهو إناء دائري الشكل بقعر مليء بالثقوب،

بشكل يسمح للبخار المنبعث من المرق -الذي يطهى في آنية أخرى تكون أسفل “الكسكاس”، ويطلق عليها أسماء من بينها “البرمة”- بالنفاذ وطهي حبات السميد.

القصعة: وهي الإناء المصنوع من الفخار الذي ينتهي فيه مسار تحضير طبق الكسكس، حيث يوضع السميد فيه بشكل مرتب، ثم يروى بالمرق الخاص الذي أعد بشكل مواز لتحضير السميد، ومعه اللحم وأنواع مختلفة من الخضر.

 

صديق اللحم والسمك والتمر.. ميراث الجدة الجزائرية

 

يعتبر الكسكس في الجزائر طبقا منزليا بامتياز، حتى عندما يتعلق الأمر بطهوه لغايات تجارية، حيث تكاد كل أسرة جزائرية تتوفر على شخص يمكنه تحضير هذه الوجبة، ويعتبر الكسكس اختصاصا نسائيا خالصا تتناقله الجزائريات أما عن جدة، ويمكن العثور عليه في جميع أنحاء ومناطق البلاد، مع تنوع في طريقة التحضير والعناصر المستعملة فيه بحسب الخصائص الطبيعية والمناخية لكل منطقة.

 

في بعض مناطق الجزائر الواقعة على الساحل نجد صنفا من الكسكس الذي يرافقه السمك بدل اللحم، كما نجد الكسكس يرافقه لحم الجمل في المناطق الصحراوية، بينما نجد أنواعا من الكسكس في الجنوب الجزائري يجري تعويض الخضر فيها بالتمر، نظرا لوفرته وندرة الخضر في بعض الفصول[13].

 

قديما كان تحضير الكسكس يقع في نفس يوم استهلاكه، حتى أن بعض المناسبات والأفراح كانت تشهد جلوس النساء بملابسهن الاحتفالية للاشتغال معا على تحضير السميد وطهيه، لكن القاسم المشترك يبقى هو تلك الحبات من السميد التي يعملون عليها عبر دعكها براحة اليد بتقنية خاصة، حيث تتشكل حبات أكبر حجما، يناهز قطرها حوالي 1 ميليمتر[14].

 

يطهى الكسكس فوق البخار عبر تكرار العملية لعدة مرات، قبل أن يوضع في “الجفنة” ويسقى بالمرق الخاص إلى جانب اللحم والخضر. وفي الجزائر يمكن تقديم الكسكس بدون مرق حيث يجري استهلاكه بطرق أخرى مختلفة، من قبيل مرافقته بقطع من الخضر التي تطهى فوق البخار بدون أي مرافقة، حيث يدهن الكسكس الساخن بالعسل أو الزبدة أو يخلط ببعض الفواكه الجافة[15].

 

300 نوع من الكسكس.. إرث الملك الأمازيغي “ماسينيسا

 

حسب التقاليد الجزائرية فإن أطباق الكسكس تقدم في المناسبات السعيدة، على أن يرافق في لحظة تقديمه للمدعوين بأهازيج وأغاني خاصة بمثل هذه المناسبات، سواء كان الأمر يتعلق بحفل زفاف أو حفل ختان.

بينما يتخذ هذا الطبق طبيعة دينية خاصة حين يقدم في الزوايا الدينية على سبيل الصدقة لفائدة عابري السبيل، أو في بعض المناسبات الدينية التي تشهد اجتماع عدد كبير من الناس، حيث يعمد البعض إلى تحضير أطباق الكسكس وتقديمها بشكل تطوعي ابتغاء للأجر والثواب.

تحدد بعض المصادر فترة ظهور طبق الكسكس إلى ما قبل وجود الملك الأمازيغي “ماسينيسا” بثلاثة قرون، وهو الملك الذي أسس وحكم دولة نوميديا في شمال أفريقيا في القرن الثالث قبل الميلاد[16].

كما يحصى في الجزائر أكثر من 300 نوع من الكسكس يتميز كل صنف منها بمميزات محددة، سواء من حيث المكونات أو من حيث طريقة التحضير، فتختلف النكهات باختلاف المناطق، كما يختلف حجم وطعم حبات الكسكس نفسها[17].

 

لوحات تجسد تاريخ هذا الطبق وتراثه

“بريم” موريتانيا.. وجبة يومية ومصدر دخل

 

يشكّل طبق الكسكس في موريتانيا استثناء ضمن قائمة طويلة من الأكلات الشعبية التي فقدت مكانها داخل المطبخ الموريتاني، ويعتبر الكسكس من أهم الأكلات التراثية التي اشتهرت بين الموريتانيين، فقد اعتبروها وجبة أساسية في غذائهم اليومي، إذ قلما تجد أسرة موريتانية لا تستعمل وجبة الكسكس أو لا تصنعها من أحد أصناف الحبوب الزراعية التي تحمل أسماء خاصة مثل “تقليت” و”بشنه” و”أرحي” و”نبان” و”آدلكان”، علاوة على الشعير والقمح والذرة[18].

 

وعلى غرار باقي بلدان المغرب العربي، شهد تحضير وجبة الكسكس في موريتانيا تطورا مع مرور الزمن، حيث كانت هذه العملية تعتمد على وسائل تقليدية في السابق مثل الرحى، قبل أن تدخل الوسائل الحديثة في عملية التحضير هذه، خاصة منها عملية طحن القمح والحبوب لاستخراج السميد القابل للفتل يدويا[19].

 

ويتميز الكسكس الموريتاني باستخدام أدوات شبيهة بتلك التي تستعمل في مناطق أخرى، إلا أنها تحمل أسماء مختلفة، مثل “التبصيل” الذي يقوم مقام “القصعة” في المغرب و”الجفنة” في الجزائر، أي ذلك الإناء الكبير الذي يقدّم فيه الكسكس. ثم هناك “المرجن” وهو الإناء الذي يوضع فوقه “أركاب” وبه حبات السميد كي يطهى على البخار المتصاعد.

 

وإلى جانب الطابع العائلي لتحضير الكسكس، يوجد في موريتانيا إقبال خاص على هذه الأكلة، مما جعلها مصدر رزق لبعض النسوة اللواتي يقمن بتحضيره في بيوتهن ويعرضنه للبيع. وتقع هذه العملية بشكل شبه يومي بالنسبة لبعض النساء، حيث يقمن بشراء سميد القمح، ويقمن بفتله في “التبصيل”، وتسمى هذه العملية في موريتانيا بـ”البريم”، وتستمر العملية زهاء ساعة، بين إضافة بعض من الدقيق وقليل من الماء، حتى تصبح حبات السميد جاهزة للتقديم كطبق للكسكس[20].

 

ليبيا.. آخر حدود المملكة الكسكسية

 

رغم أن ليبيا لم تشارك في التصنيف الذي قامت به منظمة اليونسكو، فإن الكسكس يعتبر أكلة رافقت الليبيين في أفراحهم وأتراحهم، ولها تاريخ يتزامن مع تاريخ وجود الإنسان الأمازيغي الذي تقول بعض الدراسات إنه كان تاريخيا إنسانا قنوعا ونباتيا، وبالتالي ظهرت لديه أكلة الكسكس منذ العهد الروماني القديم. ففي المدونات الصادرة في القرن 16 للميلاد عن المؤرخ المغربي الحسن اليوسي الذي خلف مخطوطات عن مشاهداته في طرابلس خلال رحلة الحج؛ نجد وصفه لسكان شمال إفريقيا بكونهم يتميزون بحلق الرؤوس وأكل الكسكوس ولبس البرنوص[21].

 

ويكاد يكون تناول وجبة الكسكس محددا لهوية الإنسان المغاربي، حتى أن بعض الباحثين لاحظوا كيف أن بلدات في الحدود الليبية المصرية تصل إليها وجبة الكسكس، وذلك في مثل منطقة سيوة الليبية، بينما لا تجدها بمجرد عبورك الحدود المصرية ودخولك منطقة الإسكندرية. وهو ما يجعل الكسكس مرادفا للهوية المغاربية، حتى أنه ينسب للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة أنه حين سئل عن الليبيين هل يعتبرون مغاربة أم مشارقة قال: اسألوهم، فإن كانوا يأكلون الكسكس فهم مغاربة[22].

 

وقد عرف الكسكس واشتهر في ليبيا منذ فترة طويلة، حتى ذكره ووصفه الكثير من الرحالة الذين عبروا الشمال الإفريقي، منهم الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بلقب “ليون الأفريقي”، فقد تحدث بتفصيل كبير عن الكسكس وأوصافه، في كتابه “وصف أفريقيا[23].

 

المصدر: ريم أفريك

زر الذهاب إلى الأعلى