هل يستفيد الاقتصاد الإسلامي من إصدار عملة مشفرة؟
على أحد المواقع الإخبارية العالمية، نُشر فيديو يروج لإصدار عملة إسلامية مشفرة نهاية الربع الأول من عام 2023، وقد استهل المتحدث موضوعه بعبارة “توفير البيئة المناسبة للمجتمع المسلم”، وأخذ يبيّن أن العملة المنتظرة ستكون من خلال “بلوكتشين” خاص بها، وبعيدة عن باقي العملات التي تستخدم في مشروعات تخالف الشريعة.
وأضاف أن كل عملة ستصدر في إطار المشروع المنتظر ستذهب 10% من قيمتها إلى صندوق لدعم التكنولوجيا في العالم الإسلامي، وأن القائمين على هذه الفكرة سيكونون بذلك أصحاب أول وقف رقمي للعملات المشفرة في العالم الإسلامي.
وثمة محاولات أخرى تجتهد في أن تضفي على العملات المشفرة حالة من الاستقرار، مثل حالة إصدار عملات مشفرة مقومة بالذهب، وهي عملات يتم التعامل بها في بعض البلدان مثل أستراليا وسنغافورة، ولكن هذا التعامل ضعيف جدًا.
والقضية ليست في كون العملات المشفرة مقومة بالدولار أم الذهب، فالمشكلة في آليات التعامل، وما يعتريها من تقلبات سعرية كبيرة، وغش وسرقة، بل القضية الكبرى هي مدى مساهمة هذه العملات وما ينبني عليها من تعاملات في تحقيق قيمة مضافة للنشاط الاقتصادي.
اختلال سلم الأوليات
كانت فكرة المصارف الإسلامية وما تبعها من معاملات إسلامية أخرى، مثل أسواق المال الإسلامية، أو السياحة الحلال، أو الطعام الحلال، أو شركات التأمين الإسلامية، وغيرها، مقبولة في إطار رفع الحرج عن الناس، بسبب ما يشوب البدائل التقليدية من ربا أو محرمات أخرى.
ولكن طرح “عملة إسلامية مشفرة” لا يأتي في إطار رفع الحرج، لما يعتري العملات المشفرة من إشكاليات مثل عدم الاستقرار على تعريفها، هل هي سلعة أم عملة؟ وغياب التوصيف القانوني لها، فرغم دخولها للعديد من الدول، ووجود منصات معلنة، فإن الحقوق القانونية وحماية المتعاملين بهذه العملات، لا تزال غير موجودة بشكل كامل أو شبه كامل، فعمليات السرقة والقرصنة تطل علينا كل يوم، وبمبالغ تصل إلى المليارات.
كما أن الدول لم تُحكم بعد سياجا معلوماتيا يحد من اختراق نظم المعلومات الخاصة بالعملات المشفرة، ولم تضع لها أطرًا قانونية، يمكن من خلالها إحكام السيطرة، ومحاسبة مرتكبي الجرائم الخاصة بتلك العملات.
لسنا مطالبين بالدخول في كل جديد ومحاولة “تكييفه” على الشريعة الإسلامية، بل المسلمون مطالبون بتقديم الجديد النابع من قيمهم الحضارية والإنسانية، سواء للمجتمعات الإسلامية، أو غيرها.
فضلا عن المشروع البديل الذي تتبناه بعض الدول، من إصدار العملات الرقمية المحلية، مما يجعل التعامل بالعملات المشفرة، محفوفًا بكثير من المخاطر. ناهيك عن عدم استقرار الرأي الشرعي بشأن العملات المشفرة، وإن كان غالبية من أدلوا بدلوهم في الحكم عليها ذهبوا إلى التحريم، لما يعتريها من غرر وغش وإهدار للثروات، إذ اعتبر بعضهم التعامل بها يأتي في إطار المقامرة.
إن التحدي الذي يفرض نفسه منذ عقود على تجربة المصارف الإسلامية، هو مدى مساهمتها في التنمية بالدول التي توجد بها، وكذلك سعيها في تقديم ابتكارات مالية مستقاة من قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية، وليس فقط مجرد تهذيب الأدوات المالية التي قدمتها البنوك التقليدية.
ومن هنا، فالأولى في شأن “العملة الإسلامية المشفرة” ألا تأتي في إطار ما يعرف بـ”رفع الحرج”، وحتى هذا الباب لا ينطبق على العملات المشفرة، لأنها لا تمثل ضرورة بالنسبة للأفراد أو المجتمعات، وقد شاهدنا كيف تراجعت قيمة هذه العملات بشكل كبير، وصل إلى خسارة نحو 60% من قيمتها خلال عام 2022.
الأولويات المالية والاقتصادية للمسلمين
المؤشرات الاقتصادية الكلية للعالم الإسلامي مفزعة، وتدعو كل من يملك أي عنصر من عناصر الإنتاج أن يحسن توظيفه في إطار الفلسفة الإسلامية، والمقاصد العامة للشريعة، فضلًا عن سلم الأولويات الذي تحدث عنه المعنيون بالفقه ومعاش الناس، من تلبية الضرورات أولًا، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
فالأرقام المعلنة عن أداء دول منظمة التعاون الإسلامي لعام 2021، عبر تقرير “التوقعات الاقتصادية لمنظمة التعاون الإسلامي عام 2022″، تبين أن نسبة العاطلين بدول المنظمة بلغت 7.5%، وبلغ عددهم 51.4 مليون فرد، وأن دول المنظمة تستحوذ على نسبة 24% من العاطلين على مستوى العالم.
ولم يكن أداء المنظمة -وفق ما ورد بالتقرير نفسه- أحسن حالا في مؤشر التضخم، الذي بلغ 12.9% في العام نفسه، وهو ما يعني مزيدا من الفقر وانخفاض القيمة الشرائية للعملات المحلية لدول المنظمة، وبذلك تكون اقتصاديات دول المنظمة قد أطبقت عليها مشكلتا الفقر والبطالة.
والناظر لأداء معدلات النمو الاقتصادي للدول العربية أو الإسلامية خلال عام 2022 وما شهدته من تحسن، يجد أن وراء هذا التحسن ارتفاع أسعار النفط، وبدونها ينكشف الأداء الحقيقي لاقتصاديات الدول العربية والإسلامية، فقضيتنا هي الإنتاج الحقيقي، وليس مجرد مساهمة في مؤشرات مالية هنا وهناك.
وكان من الأولى لدى أصحاب مشروع إطلاق “عملة إسلامية مشفرة”، أن يتجهوا لإنشاء صندوق استثمار مباشر، يعمل على سد الفجوة الغذائية لدى عديد من الدول الإسلامية، أو تطوير الإنتاج الصناعي لديها، أو توطين وإنتاج التكنولوجيا فيها.
ثمة حاجة كبيرة لدى عديد من الدول الإسلامية للبنية الأساسية في الطرق والاتصالات والتعليم والصحة، ولو أن مثل هذه الأموال اتجهت لتلبية -ولو جزء من- هذه الاحتياجات لكان أولى من الاتجاه للدخول في باب من أبواب العمل غير المستقر، الذي يعد توظيفًا لا يلبي احتياجا ضروريا لدى غالبية المسلمين.
إن غالبية دول العالم الإسلامي تعتمد في اقتصادياتها على إنتاج المواد الأولوية أو الصناعات التقليدية، وغالبية صادراتها كذلك، مما أوقعها في براثن التبعية السياسية والاقتصادية، فثلاثية الاحتياجات الأساسية لدول العالم الإسلامي هي استيراد الغذاء والدواء والسلاح، وهي مجالات حيوية لاستقطاب أي استثمارات مالية لدى أبناء العالم الإسلامي.
مالك بن نبي يصحح البوصلة
رغم أن المفكر الجزائري مالك بن نبي ألف كتابه “المسلم في عالم الاقتصاد” في مطلع سبعينيات القرن الماضي، فإنه يضع كل من يفكرون في عالم المال والاقتصاد على البوصلة الصحيحة، فالرجل يذكر أن “الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك، وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات”.
إن ثروات المسلمين ليست بالهينة، ولكن لا يُحسن استثماراها، فهي في خدمة تصورات تخص أفرادا أو دولا، ولكنها بعيدة بشكل كبير عن فلسفة امتلاك المال في المنهج الإسلامي، كما أنها تفتقد إلى مؤشر المقاصد المالية للشريعة الإسلامية، فكيف يستقيم الأمر في شأن الجوع والمرض والجهل الذي تعانيه الدول الإسلامية، مع امتلاك بعض الدول الإسلامية لنحو 3.5 تريليونات دولار في صناديقها السيادية!
ليس المطلوب من تلك الدول تقديم ثرواتها في شكل منح ومساعدات للفقراء والمرضى بالدول الإسلامية -وإن كان للزكاة سهم في هذه الأموال يوجه للفقراء والمرضى- ولكن أن يكون لدى مديري هذه الصناديق توجه لإنشاء استثمارات حقيقية تحتاجها الدول النامية والأقل نموا بالعالم الإسلامي.
أما الأفراد والمؤسسات الذين يتبنون أفكارًا لمجرد التماهي مع الواقع العالمي وما يشهده من مستجدات، فعليهم أيضًا أن يعيدوا النظر في ما لديهم من أموال، ويحسنوا توظيفها بما يخدم الإنسان، وبما يغير من الواقع التنموي لدول العالم الإسلامي، لتكون في مصاف دول الكفاية.
سيسعد المسلمون ومعهم غيرهم إذا تم توظيف الموارد الاقتصادية (البشرية، والطبيعية، والمالية) في مواجهة الفقر والديون، وتحسين معاش الناس، ليشعروا بكرامتهم.
وأحسب أن مشروع “عملة إسلامية مشفرة” لن يكون أكثر من أحد ملفات الخلاف، ومجرد منصة تضاف لباقي المنصات.
المصدر : الجزيرة